سورة يونس - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


لما ذكر الله سبحانه الوعيد على عدم الإيمان بالمعاد، ذكر أن هذا العذاب من حقه أن يتأخر عن هذه الحياة الدنيا. قال القفال: لما وصفهم بالغفلة أكد ذلك بأن من غاية غفلتهم أن الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب، فبيّن الله سبحانه أنه لا مصلحة في إيصال الشرّ إليهم، فلعلهم يتوبون ويخرج من أصلابهم من يؤمن، قيل: معنى {وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير} لو عجل الله للناس العقوبة كما يتعجلون بالثواب والخير {لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} أي: ماتوا. وقيل المعنى: لو فعل الله مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله معهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم. وقيل: الآية خاصة بالكفار الذين أنكروا البعث، وما يترتب عليه. قال في الكشاف: وضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير، إشعاراً بسرعة إجابته وإسعافه بطلبتهم حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل له. والمراد: أهل مكة، وقولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء} [الأنفال: 32] الآية. قيل: والتقدير: ولو يعجل الله لهم الشرّ عند استعجالهم به تعجيلاً مثل تعجيله لهم بالخير عند استعجالهم به، فحذف ما حذف لدلالة الباقي عليه. قال أبو عليّ الفارسي: في الكلام حذف، والتقدير: {وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر} تعجيلاً مثل {استعجالهم بالخير} ثم حذف تعجيلاً وأقام صفته مقامه، ثم حذف صفته وأقام المضاف إليه مقامه قال: هذا مذهب الخليل وسيبويه، وهو قول الأخفش والفرّاء، قالوا: وأصله كاستعجالهم، ثم حذف الكاف ونصب. قال الفراء: كما تقول: ضربت زيداً ضربك، أي كضربك، ومعنى {لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} لأهلكوا، ولكنه سبحانه لم يعجل لهم الشرّ فأمهلوا. وقيل معناه: أميتوا. وقرأ ابن عامر {لقضى} على البناء للفاعل، وهي قراءة حسنة لمناسبة ذلك لقوله: {وَلَوْ يُعَجّلُ الله} قوله: {فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} الفاء للعطف على مقدّر يدلّ عليه الكلام، لأن قوله: {وَلَوْ يُعَجّلُ الله} يتضمن نفي التعجيل، فكأنه قيل: لكن لا يعجل لهم الشرّ، ولا يقضي إليهم أجلهم، فنذرهم الخ: أي فنتركهم ونمهلهم، والطغيان: التطاول، وهو العلوّ والارتفاع، ومعنى {يَعْمَهُونَ} يتحيرون، أي نتركهم يتحيرون في تطاولهم وتكبرهم، وعدم قبولهم للحق استدراجاً لهم منه سبحانه وخذلاناً.
ثم بيّن الله سبحانه أنهم كاذبون في استعجال الشرّ، ولو أصابهم ما طلبوه لأظهروا العجز والجزع، فقال: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر} أي: هذا الجنس الصادق على كل ما يحصل التضرر به {دَعَانَا لِجَنبِهِ} اللام للوقت، كقوله: جئته لشهر كذا، أو في محل نصب على الحال بدلالة عطف قاعداً أو قائماً عليه، وتكون اللام بمعنى على: أي دعانا مضطجعاً {أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} وكأنه قال: دعانا في جميع الأحوال المذكورة وغيرها، وخصّ المذكورة بالذكر؛ لأنها الغالب على الإنسان، وما عداها نادر كالركوع والسجود، ويجوز أن يراد أنه يدعو الله حال كونه مضطجعاً غير قادر على القعود، وقاعداً غير قادر على القيام، وقائماً غير قادر على المشي، والأوّل: أولى.
قال الزجاج: إن تعديل أحوال الدعاء أبلغ من تعديد أحوال المضرّة، لأنه إذا كان داعياً على الدوام، ثم نسي في وقت الرخاء كان أعجب.
قوله: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إلى ضُرّ مَّسَّهُ} أي: فلما كشفنا عنه ضرّه الذي مسه، كما تفيده الفاء، مضى على طريقته التي كان عليها قبل أن يمسه الضرّ، ونسي حالة الجهد والبلاء، أو مضى عن موقف الدعاء والتضرّع، لا يرجع إليه؛ كأنه لا عهد له به، كأنه لم يدعنا عند أن مسه الضرّ إلى كشف ذلك الضرّ الذي مسه. وقيل معنى {مَرَّ} استمرّ على كفره، ولم يشكر، ولم يتعظ. قال الأخفش: (أن) في {كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا} هي المخففة من الثقيلة، والمعنى: كأنه انتهى. والجملة التشبيهية في محل نصب على الحال، وهذه الحالة التي ذكرها الله سبحانه للداعي لا تختص بأهل الكفر، بل تتفق لكثير من المسلمين، تلين ألسنهم بالدعاء وقلبهم بالخشوع والتذلل عند نزول ما يكرهون بهم. فإذا كشفه الله عنهم غفلوا عن الدعاء والتضرّع، وذهلوا عما يجب عليهم من شكر النعمة التي أنعم الله بها عليهم، من إجابة دعائهم ورفع ما نزل بهم من الضرّ، ودفع ما أصابهم من المكروه. وهذا مما يدلّ على أن الآية تعمّ المسلم والكافر، كما يشعر به لفظ الناس، ولفظ الإنسان، اللهم أوزعنا شكر نعمك، وأذكرنا الأحوال التي مننت علينا فيها بإجابة الدعاء، حتى نستكثر من الشكر الذي لا نطيق سواه، ولا نقدر على غيره، وما أغناك عنه وأحوجنا إليه {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]. والإشارة بقوله: {كذلك زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} إلى مصدر الفعل المذكور بعده كما مرّ غير مرة، أي: مثل ذلك التزيين العجيب زين للمسرفين عملهم. والمسرف في اللغة: هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس، ومحل {كذلك} النصب على المصدرية. والتزيين هو: إما من جهة الله تعالى على طريقة التحلية وعدم اللطف بهم، أو من طريق الشيطان بالوسوسة، أو من طريق النفس الأمارة بالسوء. والمعنى: أنه زين لهم الإعراض عن الدعاء، والغفلة عن الشكر، والاشتغال بالشهوات.
ثم ذكر سبحانه ما يجري مجرى الردع والزجر، عما صنعه هؤلاء، فقال: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} يعني: الأمم الماضية من قبل هؤلاء الكفار المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم: أي أهلكناهم من قبل زمانكم. وقيل: الخطاب لأهل مكة على طريق الالتفات للمبالغة في الزجر، و{لما} ظرف ل {أهلكنا}: أي أهلكناهم حين فعلوا الظلم بالتكذيب، والتجاري على الرسل، والتطاول في المعاصي من غير تأخير لإهلاكهم، كما أخرنا إهلاككم، والواو في {وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} للحال بإضمار قد، أي وقد جاءتهم رسلهم الذين أرسلناهم إليهم بالبينات، أي بالآيات البينات الواضحات الدلالة على صدق الرسل، وقيل الواو للعطف على {ظَلَمُواْ} والأوّل أولى، وقيل: المراد بالظلم هنا: هو الشرك.
والواو في {وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} للعطف على ظلموا، أو الجملة اعتراضية. واللام لتأكيد النفي: أي وما صح لهم وما استقام أن يؤمنوا لعدم استعدادم لذلك، وسلب الألطاف عنهم {كذلك نَجْزِي القوم المجرمين} أي: مثل ذلك الجزاء نجزي القوم المجرمين. وهو الاستئصال الكلي لكل مجرم، وهذا وعيد شديد لمن كان في عصره من الكفار، أو لكفار مكة على الخصوص.
ثم خاطب سبحانه الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {ثُمَّ جعلناكم خلائف} أي: استخلفناكم في الأرض بعد تلك القرون التي تسمعون أخبارها وتنظرون آثارها، والخلائف جمع خليفة، وقد تقدّم الكلام عليه في آخر سورة الأنعام، واللام في {لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} لام كي: أي: لكي ننظر كيف تعملون من أعمال الخير أو الشرّ، و{كَيْفَ} في محل نصب بالفعل الذي بعده: أي لننظر أيّ عمل تعملونه، أو في محل نصب على الحالية، أي على أيّ حالة تعملون الأعمال اللائقة بالاستخلاف.
ثم حكى الله سبحانه نوعاً ثالثاً من تعنتهم وتلاعبهم بآيات الله، فقال: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ} وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضاً عنهم، والمراد بالآيات: الآيات التي في الكتاب العزيز: أي وإذا تلا التالي عليهم آياتنا الدالة على إثبات التوحيد، وإبطال الشرك، حال كونها بينات: أي واضحات الدلالة على المطلوب {قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} وهم المنكرون للمعاد، وقد تقدّم تفسيره قريباً: أي قالوا لمن يتلوها عليهم، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم {ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدّلْهُ} طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا ما غاظهم فيما تلاه عليهم من القرآن من ذمّ عبادة الأوثان، والوعيد الشديد لمن عبدها أحد أمرين: إما الإتيان بقرآن غير هذا القرآن مع بقاء هذا القرآن على حاله، وإما تبديل هذا القرآن بنسخ بعض آياته، أو كلها، ووضع أخرى مكانها مما يطابق إرادتهم ويلائم غرضهم، فأمره الله أن يقول في جوابهم: {مَا يَكُونُ لِى} أي: ما ينبغي لي، ولا يحلّ لي، أن أبدّله من تلقاء نفسي؛ فنفى عن نفسه أحد القسمين، وهو التبديل؛ لأنه الذي يمكنه لو كان ذلك جائزاً، بخلاف القسم الآخر وهو الإتيان بقرآن آخر، فإن ذلك ليس في وسعه ولا يقدر عليه.
وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم نفى عن نفسه أسهل القسمين ليكون دليلاً على نفي أصعبهما بالطريق الأولى، وهذا منه من باب مجاراة السفهاء، إذ لا يصدر مثل هذا الاقتراح عن العقلاء بعد أن أمره الله سبحانه بذلك. وهو أعلم بمصالح عباده وبما يدفع الكفار عن هذه الطلبات الساقطة والسؤالات الباردة، و{تِلْقَاء} مصدر استعمل ظرفاً، من قبل {من تلقاء نفسي}. قال الزجاج: سألوه إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور. وقيل: سألوه أن يسقط ما فيه من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم؛ وقيل: سألوه أن يحوّل الوعد وعيداً والحرام حلالاً والحلال حراماً، ثم أمره أن يؤكد ما أجاب به عليهم من أنه ما صح له، ولا استقام أن يبدّله من تلقاء نفسه بقوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحِى إِلَىَّ} أي: ما أتبع شيئاً من الأشياء إلا ما يوحى إليّ من عند الله سبحانه من غير تبديل ولا تحويل، ولا تحريف ولا تصحيف، فقصر حاله صلى الله عليه وسلم على اتباع ما يوحى إليه، وربما كان مقصد الكفار بهذا السؤال التعريض للنبي صلى الله عليه وسلم بأن القرآن كلامه، وأنه يقدر على الإتيان بغيره والتبديل له، ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم تكميلاً للجواب عليهم: {إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فإن هذه الجملة كالتعليل لما قدّمه من الجواب قبلها، واليوم العظيم هو يوم القيامة: أي {إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى} بفعل ما تطلبون على تقدير إمكانه عذاب يوم القيامة. ثم أكد سبحانه كون هذا القرآن من عند الله، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما يبلغ إليهم منه ما أمره الله بتبليغه لا يقدر على غير ذلك، فقال: {قُل لَّوْ شَاء الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} أي: أن هذا القرآن المتلوّ عليكم هو بمشيئة الله وإرادته، ولو شاء الله أن لا أتلوه عليكم ولا أبلغكم إياه ما تلوته، فالأمر كله منوط بمشيئة الله، ليس لي في ذلك شيء قوله: {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} معطوف على ما تلوته، ولو شاء الله ما أداركم بالقرآن: أي ما أعلمكم به على لساني يقال: دريت الشيء وأدراني الله به. هكذا قرأ الجمهور بالألف من أدراه يدريه أعلمه يعلمه. وقرأ ابن كثير: {ولأدراكم به} بغير ألف بين اللام والهمزة، والمعنى: ولو شاء الله لأعلمكم به من غير أن أتلوه عليكم. فتكون اللام لام التأكيد دخلت على ألف أفعل.
وقد قرئ: {أدرؤكم} بالهمزة، فقيل: هي منقلبة عن الألف، لكونهما من واد واحد، ويحتمل أن يكون من درأته إذا دفعته، وأدرأته إذا جعلته دارياً. والمعنى: لأجعلكم بتلاوته خصماء تدرءونني بالجدال وتكذبونني.
وقرأ ابن عباس، والحسن {ولا أدراتكم به} قال أبو حاتم: أصله: ولا أدريتكم به، فأبدل من الياء ألفاً، قال النحاس: وهذا غلط. والرواية عن الحسن {ولا أدرأتكم} بالهمزة. قوله: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ} تعليل لكون ذلك بمشيئة الله، ولم يكن من النبي إلا التبليغ، أي قد أقمت فيما بينكم عمراً من قبله، أي زماناً طويلاً. وهو أربعون سنة من قبل القرآن تعرفونني بالصدق والأمانة، لست ممن يقرأ ولا ممن يكتب {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} الهمزة للتقريع والتوبيخ، أي أفلا تجرون على ما يقتضيه العقل من عدم تكذيبي لما عرفتم من العادة المستمرة إلى المدّة الطويلة بالصدق والأمانة. وعدم قراءتي للكتب المنزلة على الرسل وتعلمي لما عند أهلها من العلم، ولا طلبي لشيء من هذا الشأن، ولا حرصي عليه، ثم جئتكم بهذا الكتاب الذي عجزتم عن الإتيان بسورة منه، وقصرتم عن معارضته وأنتم العرب المشهود لهم بكمال الفصاحة، المعترف لهم بأنهم البالغون فيها إلى مبلغ لا يتعلق به غيركم؟
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {وَلَوْ يُعَجّلُ الله الناس الشر} الآية، قال: هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليهم: اللهم لا تبارك فيه والعنه. {لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} قال: لأهلك من دعا عليه وأماته.
وأخرج أبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، في الآية قال: قول الرجل للرجل: اللهم العنه، اللهم اخزه، وهو يحب أن يستجاب له.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة، في الآية قال: هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له.
وحكى القرطبي في تفسيره عن ابن إسحاق، ومقاتل، في الآية قالا: هو قول النضر بن الحارث: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء} [الأنفال: 32]. فلو عجل لهم هذا لهلكوا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن جريج، في قوله: {دَعَانَا لِجَنبِهِ} قال: مضطجعاً.
وأخرج أبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} قال: على كل حال.
وأخرج أبو الشيخ، عن أبي الدرداء، قال: ادع الله يوم سرّائك يستجاب لك يوم ضرّائك.
وأقول أنا: أكثر من شكر الله على السرّاء يدفع عنك الضرّاء. فإن وعده للشاكرين بزيادة النعم مؤذن بدفعه عنهم النقم، لذهاب حلاوة النعمة عند وجود مرارة النقمة، اللهم اجمع لنا بين جلب النعم وسلب النقم، فإنا نشكرك عدد ما شكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان. ونحمدك عدد ما حمدك الحامدون بكل لسان في كل زمان.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {ثُمَّ جعلناكم خلائف فِى الأرض} الآية، قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية فقال: صدق ربنا ما جعلنا خلائف في الأرض إلا لينظر إلى أعمالنا.
فأروا الله خير أعمالكم بالليل والنهار، والسرّ والعلانية.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج، قال: {خلائف فِى الأرض} لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدّلْهُ} قال: هذا قول مشركي أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} أعلمكم به.
وأخرج أبو الشيخ، عن قتادة، قال: {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} ولا أشعركم به.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ: {ولا أنذرتكم به}.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ، في قوله: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ} قال: لم أتل عليكم ولم أذكر.
وأخرجا عنه قال: لبث أربعين سنة قبل أن يوحى إليه ورأى الرؤيا سنتين، وأوحى الله إليه عشر سنين بمكة، وعشراً بالمدينة، وتوفي وهو ابن اثنتين وستين سنة.
وأخرج ابن أبي شيبة، والبخاري، والترمذي، عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاثة عشر يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة.


قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ} استفهام فيه معنى الجحد، أي لا أحد أظلم {مِمَّنِ افترى عَلَى الله} الكذب، وزيادة {كَذِبًا} مع أن الافتراء لا يكون إلا كذباً لبيان أن هذا مع كونه افتراء على الله هو كذب في نفسه، فربما يكون الافتراء كذباً في الإسناد فقط، كما إذا أسند ذنب زيد إلى عمرو، ذكر معنى هذا أبو السعود في تفسيره، قيل: وهذا من جملة رده صلى الله عليه وسلم على المشركين لما طلبوا منه أن يأتي بقرآن غير هذا القرآن، أو يبدّله، فبين لهم أنه لو فعل ذلك لكان من الافتراء على الله، ولا ظلم يماثل ذلك، وقيل: المفتري على الله الكذب هم: المشركون، والمكذب بآيات الله هم أهل الكتاب {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون} تعليل لكونه لا أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته، أي لا يظفرون بمطلوب، ولا يفوزون بخير، والضمير في {إنه} للشأن، أي إن الشأن هذا.
ثم نعى الله سبحانه عليهم عبادة الأصنام، وبين أنها لا تنفع من عبدها ولا تضرّ من لم يعبدها، فقال: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} أي: متجاوزين الله سبحانه إلى عبادة غيره، لا بمعنى ترك عبادته بالكلية {مَالاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} أي: ما ليس من شأنه الضرّر ولا النفع، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً لمن أطاعه معاقباً لمن عصاه، والواو لعطف هذه الجملة على جملة {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا} و{ما} في {مَالاَ يَضُرُّهُمْ} موصولة أو موصوفة، والواو في {وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} للعطف على {وَيَعْبُدُونَ} زعموا أنهم يشفعون لهم عند الله، فلا يعذبهم بذنوبهم. وهذا غاية الجهالة منهم، حيث ينتظرون الشفاعة في المآل ممن لا يوجد منه نفع ولا ضرّ في الحال. وقيل: أرادوا بهذه الشفاعة إصلاح أحوال دنياهم، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عنهم، فقال: {قُلْ أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السموات وَلاَ فِى الأرض} قرأ أبو السمال العدوي {تنبئون} بالتخفيف من أنبأنا ينبئ. وقرأ من عداه بالتشديد من نبأ ينبئ. والمعنى: أتخبرون الله أن له شركاء في ملكه يعبدون كما يعبد، أو أتخبرونه أن لكم شفعاء بغير إذنه، والله سبحانه لا يعلم لنفسه شريكاً ولا شفيعاً بغير إذنه من جميع مخلوقاته الذين هم في سمواته وفي أرضه؟ وهذا الكلام حاصله: عدم وجود من هو كذلك أصلاً، وفي هذا من التهكم بالكفار مالا يخفى، ثم نزّه الله سبحانه نفسه عن إشراكهم، وهو يحتمل أن يكون ابتداء كلام غير ادخل في الكلام الذي أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب به عليهم، ويحتمل أن يكون من تمام ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم جواباً عليهم.
قرأ حمزة والكسائي {عَمَّا يُشْرِكُونَ} بالتحتية. وقرأ الباقون بالفوقية، واختار القراءة الأولى أبو عبيد.
قوله: {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا} قد تقدّم تفسيره في البقرة. والمعنى: أن الناس ما كانوا جميعاً إلا أمة واحدة موحدة لله سبحانه، مؤمنة به، فصار البعض كافراً وبقي البعض الآخر مؤمناً، فخالف بعضهم بعضاً.
وقال الزجاج: هم العرب كانوا على الشرك. وقال: كل مولود يولد على الفطرة، فاختلفوا عند البلوغ، والأوّل أظهر. وليس المراد أن كل طائفة أحدثت ملة من ملل الكفر مخالفة للأخرى، بل المراد: كفر البعض وبقي البعض على التوحيد، كما قدّمنا: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} وهي: أنه سبحانه لا يقضى بينهم فيما اختلفوا فيه إلا يوم القيامة {لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ} في الدنيا {فِيمَا} هم {فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} لكنه قد امتنع ذلك بالكلمة التي لا تتخلف، وقيل معنى: {لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ} بإقامة الساعة عليهم، وقيل: لفرغ من هلاكهم. وقيل: الكلمة: إن الله أمهل هذه الأمة فلا يهلكهم بالعذاب في الدنيا. وقيل: الكلمة: أنه لا يأخذ أحداً إلا بحجة، وهي إرسال الرسل كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَث رَسُولاً} [الإسراء: 15]. وقيل: الكلمة: قوله: «سبقت رحمتي غضبي». وقرأ عيسى بن عمر: {لقضى} بالبناء للفاعل. وقرأ من عداه بالبناء للمفعول.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة، قال: قال النضر: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزّى، فأنزل الله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بآياته إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَالا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} الآية.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا} قال ابن مسعود: كانوا على هدى.
وروى أنه قرأ هكذا.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} قال: آدم وحده {فاختلفوا} قال: حين قتل أحد ابني آدم أخاه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في الآية قال: كان الناس أهل دين واحد على دين آدم، فكفروا، فلولا أن ربك أجلهم إلى يوم القيامة لقضى بينهم.


قوله: {وَيَقُولُونَ} ذكر سبحانه هاهنا نوعاً رابعاً من مخازيهم، وهو معطوف على قوله: {وَيَعْبُدُونَ} وجاء بالمضارع لاستحضار صورة ما قالوه. قيل: والقائلون هم: أهل مكة، كأنهم لم يعتدّوا بما قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة، والمعجزات القاهرة التي لو لم يكن منها إلا القرآن لكفي به دليلاً بيناً ومصدّقاً قاطعاً: أي هلا أنزلت عليه آية من الآيات التي نقترحها عليه، ونطلبها منه، كإحياء الأموات، وجعل الجبال ذهباً، ونحو ذلك؟ ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال: {فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ} أي: أن نزول الآية غيب، والله هو المختص بعلمه، المستأثر به، لا علم لي ولا لكم، ولا لسائر مخلوقاته {فانتظروا} نزول ما اقترحتموه من الآيات {إِنّى مَعَكُم مّنَ المنتظرين} لنزولها، وقيل: المعنى: انتظروا قضاء الله بيني وبينكم بإظهار الحق على الباطل.
قوله: {وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِى ءاياتنا} لما بين سبحانه في الآية المتقدمة أنهم طلبوا آية عناداً ومكراً ولجاجاً، وأكد ذلك بما ذكره هنا من أنه سبحانه إذا أذاقهم رحمة منه من بعد أن مستهم الضرّاء، فعلوا مقابل هذه النعمة العظيمة المكر منهم في آيات الله؛ والمراد بإذاقتهم رحمته سبحانه: أنه وسع عليهم في الأرزاق، وأدرّ عليهم النعم بالمطر وصلاح الثمار، بعد أن مستهم الضرّاء بالجدب وضيق المعايش، فما شكروا نعمته ولا قدروها حق قدرها، بل أضافوها إلى أصنامهم التي لا تنفع ولا تضرّ، وطعنوا في آيات الله، واحتالوا في دفعها بكل حيلة، وهو معنى المكر فيها. و{إذا} الأولى شرطية، وجوابها {إذا لهم مكر} وهي فجائية، ذكر معنى ذلك الخليل وسيبويه. ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عنهم فقال: {قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْرًا} أي: أعجل عقوبة، وقد دلّ أفعل التفضيل على أن مكرهم كان سريعاً، ولكن مكر الله أسرع منه. وإذا الفجائية يستفاد منها السرعة، لأن المعنى أنهم فاجئوا المكر: أي أوقعوه على جهة الفجاءة والسرعة، وتسمية عقوبة الله سبحانه مكراً من باب المشاكلة، كما قرّر في مواطن من عبارات الكتاب العزيز {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} قرأ يعقوب في رواية، وأبو عمرو في رواية {يمكرون} بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية. والمعنى: أن رسل الله وهم الملائكة يكتبون مكر الكفار، لا يخفى ذلك على الملائكة الذين هم الحفظة، فكيف يخفى على العليم الخبير؟ وفي هذا وعيد لهم شديد، وهذه الجملة تعليلية للجملة التي قبلها، فإن مكرهم إذا كان ظاهراً لا يخفى، فعقوبة الله كائنة لا محالة، ومعنى هذه الآية قريب من معنى الآية المتقدّمة وهي: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر} [يونس: 12] وفي هذه زيادة، وهي أنهم لا يقتصرون على مجرد الإعراض، بل يطلبون الغوائل لآيات الله بما يدبرونه من المكر.
{هُوَ الذى يُسَيّرُكُمْ فِى البر والبحر} ضرب سبحانه لهؤلاء مثلاً حتى ينكشف المراد انكشافاً تاماً. ومعنى تسييرهم في البر: أنهم يمشون على أقدامهم التي خلقها لهم، لينتفعوا بها، ويركبون ما خلقه الله لركوبهم من الدواب، ومعنى تسييرهم في البحر: أنه ألهمهم لعمل السفائن التي يركبون فيها في لجج البحر، ويسر ذلك لهم، ودفع عنهم أسباب الهلاك.
وقد قرأ ابن عامر: {وهو الذي ينشركم في البحر} بالنون والشين المعجمة من النشر كما في قوله: {فانتشروا فِى الأرض} [الجمعة: 10] أي ينشرهم سبحانه في البحر، فينجي من يشاء ويغرق من يشاء {حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} الفلك يقع على الواحد والجمع ويذكر ويؤنث، وقد تقدّم تحقيقه {وَجَرَيْنَ} أي السفن بهم، أي بالراكبين عليها، و{حتى} لانتهاء الغاية، والغاية مضمون الجملة الشرطية بكمالها، فالقيود المعتبرة في الشرط ثلاثة: أوّلها: الكون في الفلك، والثاني: جريها بهم بالريح الطيبة التي ليست بعاصفة، وثالثها: فرحهم. والقيود المعتبرة في الجزاء ثلاثة: الأوّل {جَاءتْهَا} أي: جاءت الفلك ريح عاصف، أو جاءت الريح الطيبة: أي تلقتها ريح عاصف، والعصوف: شدّة هبوب الريح، والثاني: {وَجَاءهُمُ الموج مِن كُلّ مَكَانٍ} أي: من جميع الجوانب للفلك، والمراد: جاء الراكبين فيها، والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر، والثالث: {ظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أي: غلب على ظنونهم الهلاك، وأصله من إحاطة العدوّ بقوم أو ببلد. فجعل هذه الإحاطة مثلاً في الهلاك وإن كان بغير العدو كما هنا. وجواب إذا في قوله: {إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك} قوله: {جَاءتْهَا} إلى آخره، ويكون قوله: {دَّعَوَا الله} بدلاً من ظنوا، لكون هذا الدعاء الواقع منهم إنما كان عند ظنّ الهلاك وهو الباعث عليه، فكان بدلاً منه بدل اشتمال لاشتماله عليه، ويمكن أن يكون جملة دعوا مستأنفة كأنه قيل: ماذا صنعوا؟ فقيل: دعوا الله، وفي قوله: {وَجَرَيْنَ بِهِم} التفات من الخطاب إلى الغيبة، جعل الفائدة فيه صاحب الكشاف المبالغة.
وقال الرازي: الانتقال من مقام الخطاب إلى مقام الغيبة في هذا المقام دليل المقت والتبعيد، كما أن عكس ذلك في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] دليل الرضا والتقريب، وانتصاب {مخلصين} على الحال: أي لم يشوبوا دعاءهم بشيء من الشوائب، كما جرت عادتهم في غير هذا الموطن أنهم يشركون أصنامهم في الدعاء، وليس هذا لأجل الإيمان بالله وحده، بل لأجل أن ينجيهم مما شارفوه من الهلاك، لعلمهم أنه لا ينجيهم سوى الله سبحانه. وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد، وأن المضطرّ يجاب دعاؤه وإن كان كافراً.
وفي هذه الآية بيان أن هؤلاء المشركين كانوا لا يلتفتون إلى أصنامهم في هذه الحالة، وما يشابهها، فياعجباً لما حدث في الإسلام من طوائف يعتقدون في الأموات؟ فإذا عرضت لهم في البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات، ولم يخلصوا الدعاء لله، كما فعله المشركون، كما تواتر ذلك إلينا تواتراً يحصل به القطع، فانظر هداك الله ما فعلت هذه الاعتقادات الشيطانية، وأين وصل بها أهلها، وإلى أين رمى بهم الشيطان، وكيف اقتادهم وتسلط عليهم؟ حتى انقادوا له انقياداً ما كان يطمع في مثله، ولا في بعضه، من عباد الأوثان، فإنا لله وإنا إليه راجعون، واللام في: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه} هي اللام الموطئة للقسم، أي قائلين ذلك، والإشارة: {مِنْ هذه} إلى ما وقعوا فيه من مشارفة الهلاك في البحر، واللام في {لَنَكُونَنَّ} جواب القسم، أي لنكونن في كل حال ممن يشكر نعمك التي أنعمت بها علينا، منها هذه النعمة التي نحن بصدد سؤالك أن تفرجها عنا، وتنجينا منها؛ وقيل: إنَّ هذه الجملة مفعول {دعوا}.
{فَلَمَّا نَجَّاهُمْ} الله من هذه المحنة التي وقعوا فيها، وأجاب دعاءهم، لم يفوا بما وعدوا من أنفسهم. بل فعلوا فعل الجاحدين لا فعل الشاكرين، وجعلوا البغي في الأرض بغير الحق مكان الشكر. وإذا في {إِذَا هُمْ يَبْغُونَ} هي الفجائية، أي فاجؤوا البغي في الأرض بغير الحق. والبغي: هو الفساد، من قولهم بغى الجرح: إذا ترامى في الفساد، وزيادة في الأرض للدلالة على أن فسادهم هذا شامل لأقطار الأرض، والبغي وإن كان ينافي أن يكون بحق، بل لا يكون إلا بالباطل، لكن زيادة بغير الحق إشارة إلى أنهم فعلوا ذلك بغير شبهة عندهم، بل تمرّداً وعناداً؛ لأنهم قد يفعلون ذلك لشبهة يعتقدونها مع كونها باطلة.
قوله: {ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا} لما ذكر سبحانه أن هؤلاء المتقدّم ذكرهم يبغون في الأرض بغير الحق، ذكر عاقبة البغي وسوء مغبته. قرأ ابن إسحاق، وحفص، والمفضل بنصب {متاع} وقرأ الباقون بالرفع. فمن قرأ بالنصب جعل ما قبله جملة تامة: أي بغيكم وبال على أنفسكم، فيكون بغيكم مبتدأ وعلى أنفسكم خبره، ويكون {متاع} في موضع المصدر المؤكد، كأنه قيل: تتمتعون متاع الحياة الدنيا، ويكون المصدر مع الفعل المقدّر استئنافاً، وقيل: إن {متاع} على قراءة النصب ظرف زمان نحو مقدم الحاج: أي زمن متاع الحياة الدنيا، وقيل: هو مفعول له: أي لأجل متاع الحياة الدنيا، وقيل منصوب بنزع الخافض: أي كمتاع؛ وقيل على الحال على أنه مصدر بمعنى المفعول: أي ممتعين، وقد نوقش غالب هذه الأقوال في توجيه النصب.
وأما من قرأ برفع {متاع} فجعله خبر المبتدأ: أي بغيكم متاع الحياة الدنيا، ويكون {على أنفسكم} متعلق بالمصدر، والتقدير: إنما بغيكم على أمثالكم، والذين جنسهم جنسكم، متاع الحياة الدنيا ومنفعتها التي لا بقاء لها، فيكون المراد بأنفسكم على هذا الوجه: أبناء جنسهم، وعبر عنهم بالأنفس لما يدركه الجنس على جنسه من الشفقة؛ وقيل: ارتفاع متاع على أنه خبر ثان؛ وقيل: على أنه خبر لمبتدأ محذوف: أي هو متاع. قال النحاس: على قراءة الرفع يكون {بغيكم} مرتفعاً بالابتداء، وخبره {متاع الحياة الدنيا} و{على أنفسكم} مفعول البغي، ويجوز أن يكون {خبره على أنفسكم} ويضمر مبتدأ، أي ذلك متاع الحياة الدنيا، أو هو متاع الحياة الدنيا. انتهى.
وقد نوقش أيضاً بعض هذه الوجوه المذكورة في توجيه الرفع، بما يطول به البحث في غير طائل. والحاصل أنه إذا جعل خبر {المبتدأ على أنفسكم} فالمعنى؛ أن ما يقع من البغي على الغير هو بغي على نفس الباغي، باعتبار ما يؤول إليه الأمر من الانتقام منه مجازاة على بغيه، وإن جعل الخبر {متاع} فالمراد: أن بغي هذا الجنس الإنساني على بعضه بعضاً هو سريع الزوال، قريب الاضمحلال، كسائر أمتعة الحياة الدنيا، فإنها ذاهبة عن قرب، متلاشية بسرعة، ليس لذلك كثيرة فائدة ولا عظيم جدوى. ثم ذكر سبحانه ما يكون على ذلك البغي من المجازاة يوم القيامة، مع وعيد شديد فقال: {ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ} وتقديم الخبر للدلالة على القصر، والمعنى: أنكم بعد هذه الحياة الدنيا ومتاعها ترجعون إلى الله، فيجازي المسيء بإساءته، والمحسن بإحسانه {فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا، أي فنخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير وشرّ، والمراد بذلك: المجازاة، كما تقول لمن أساء: سأخبرك بما صنعت، وفيه أشد وعيد وأفظع تهديد.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن الربيع، في قوله: {فانتظروا إِنّى مَعَكُم مّنَ المنتظرين} قال: خوفهم عذابه وعقوبته.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِى ءاياتنا} قال: استهزاء وتكذيب.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، في قوله: {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} قال: هلكوا.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو داود، والنسائي، وابن مردويه، عن سعد بن أبي وقاص، ما حاصله: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أهدر يوم الفتح دم جماعة، منهم عكرمة بن أبي جهل، هرب من مكة وركب البحر فأصابهم عاصف، فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً، فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر الإخلاص، ما ينجيني في البرّ غيره. اللهم إن لك عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه، أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده، فلأجدنه عفواً كريماً، فجاء فأسلم.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم، والخطيب في تاريخه، والديلمي في مسند الفردويس، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث هنّ رواجع على أهلها: المكر، والنكث، والبغي»، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} [الفتح: 10].
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان، عن أبي بكرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبغ ولا تكن باغياً، فإن الله يقول: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ}».
وأخرج أبو الشيخ عن مكحول قال: ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه: المكر، والبغي، والنكث، قال الله سبحانه: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ}.
أقول أنا: وينبغي أن يلحق بهذه الثلاث التي دلّ القرآن على أنها تعود على فاعلها: الخدع، فإن الله يقول: {يخادعون الله والذين ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ} [البقرة: 9].
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما».
وأخرج ابن مردويه من حديث ابن عمر مثله.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6